“يوم انقذنا الشهيد أبا عالي ولد حمودي مرتين من موت محقق”.يرويها المقاتل وجريح الحرب، “أحمد بنجارة”

“يوم انقذنا الشهيد أبا عالي ولد حمودي مرتين من موت محقق”.يرويها المقاتل وجريح الحرب، “أحمد بنجارة”

“الزمن، شهر ماي. وكنت حينها في إجازة قادما من أوروبا الشرقية التي كلفت فيها بتنسيق علاج جرحى جيش التحرير الشعبي الصحراوي.
الإجازة التي تمنيت أن تكون هادئة في ربوع المخيم تحولت إلى رحلة أيامها متصلة غامرة بالمجازفة وخوض المخاطر ومراوغة الموت.
كانت إحدى تلك المناسبات التي رافقت فيها محمد عبد العزيز، رحمه الله، والتي لا يمكن أن أنساها ما حييت هذه المناسبة التي لامس فيها الخيال الواقع. ولو لم أكن طرفا وشاهدا على هذه الواقعة ما صدقتها.
في يوم 19 من ماي 1979. الأجواء في المخيمات إحتفالية بامتياز، والتحضير للذكرى المخلدة لانطلاق الكفاح المسلح على قدم وساق. علِمَ محمد عبد العزيز بوجودي في المخيمات فبعث في أثري أحماد ولد بلالي. ومن الرابوني سافرنا؛ محمد عبد العزيز، امهمد ولد زيو، أحماد وأنا، إلى الداخلة الليلة التي تسبق الإحتفال بالذكرى حيث بتنا ليلتنا هناك. في الصباح شاركنا في الإحتفال. وألقى محمد عبد العزيز كلمة بالمناسبة ثم اتجهنا رأسا ثلاثتنا، محمد عبد العزيز، أحماد وأنا، في نفس اليوم، إلى جبهات القتال. والوجهة كانت أقصى الشمال.
في طريقنا التقينا حرطن ولد ازويدة، نائب قائد الناحية الأولى، رحمه الله، في وحدة من المقاتلين بموقع من مواقع الناحية الأولى التي كانت تُعد لمعركة في العمق المغربي بمعية الناحية الثالثة التي يقودها أيوب رحمه الله. وحين تقدمنا في الشمال التقينا أيوب حيث ترابط الناحية الثالثة في موقع تمر به الوحدات المغربية، وذلك لقطع الطريق على النجدات المغربية التي قد تتدخل في معركة كبيرة يتم التحضير لها ستقوم بها الناحيتان العسكريتان الأولى والثانية (الوسط).
من هناك انطلقنا في سيارتين، حيث رافقنا أيوب ومجموعة من المقاتلين معه. وعند ضريح ولي اسمه الفراح توقفنا لتناول الغداء. باشر بعض المقاتلين في إعداد الغداء، وفي الأثناء طلب محمد عبد العزيز مني ومن أيوب مرافقته وامتطينا سيارة أيوب واتجهنا إلى “لحميديات” حيث صادفنا قوة مغربية كبيرة تتحرك ببطء. تقدمنا كثيرا من القوة المغربية وهو ما دفع أيوب إلى تنبيه محمد من أننا لو تقدمنا أكثر فسيعني ذلك وقوعنا في الأسر، لكن محمد لم يكترث للتحذير وأراد أن نواصل تقدمنا وهو يقول لي؛ “زيد الگدام أشوي ..سل ..سل!” لكنني أخبرته أننا لا نستطيع أن نجازف أكثر. نزل محمد وبيده منظار عسكري وطلب مني أن أنزل لأرى الطنطان لحمر مشاهدة لكنني أجبته ممازحا؛ “ما گابظني شَوْگُو وبلا غاية فيه! “. أنهى محمد عبد العزيز مسح المنطقة وعاد إلى السيارة وعدنا أدراجنا إلى حيث تنتظرنا مجموعة المقاتلين عند ضريح “الفراح”. هناك أخذنا قسطا من الراحة ثم ودعناهم.
واتجهنا ثلاثتنا مجددا (معنا أحماد سائق الأمين العام) إلى منطقة “أخنيفيس” حيث تعد الناحية الأولى والناحية الثانية (الوسط) العدة لعمل عسكري كبير ستعترضان فيه قافلة إمداد مغربية ضخمة ستخرج من الطنطان باتجاه لعيون. عند وصولنا التقينا بمحمد الأمين البوهالي، وقبل الانتهاء من تبادل التحية سمعنا أصوات الرصاص قريبا منا. قرر محمد الأمين البوهالي التوجه إلى حيث مصدر النيران لاستطلاع الأمر. بعد ذلك لاحظ محمد عبد العزيز قوة مغربية تتجه نحو مواقع للناحية الثانية، فأرتأى أن نتجه حيث ترابط الناحية الثانية لاستنفار وحدات المدفعية ومفاجأة القوة المغربية في الطريق. فتطوعت شخصيا للقيام بتلك المهمة. هكذا، قدت السيارة إلى حيث مواقع تابعة للناحية الثانية وتركت خلفي محمد وأحماد وكان برفقتهما مجموعة مقاتلين من الناحية الثانية تنتمي لوحدات الدفاع الجوي، إضافة إلى سيارة إسعاف فيها الشهيدة سيدة أمي. أما أنا فقد اتجهتُ إلى مواقع الناحية العسكرية الثانية التي اشتبكت مع القوة المغربية.
الناحية العسكرية الأولى من جهتها خاضت نفس المعركة الضارية ضد القوة المغربية الضخمة التي خرجت من الطنطان لتأمين الطريق لقافلة الإمداد التي كان ينتظر خروجها من الطنطان باتجاه لعيون. وصل سعيد ولد الصغير، رحمه الله، قائد الناحية العسكرية الأولى، الموقع الذي يتواجد فيه محمد وأحماد واصطحبهما في سيارته التي تعرضت لوابل من الرصاص تسبب في إصابة أحماد بجروح. وهو ما استدعى نقله على جناح السرعة رفقة جرحى آخرين لتلقي العلاج.
خاض مقاتلو الناحيتين الأولى والثانية معركة ناجحة بكل المقاييس. وشرع المقاتلون في الإنسحاب من أرض المعركة “اخنيفيس” والعودة من حيث أتوا بعد أن غنموا الكثير من المعدات. لكن محمد لمين ولد البوهالي أبطأ في انسحاب الناحية الثانية حتى تتمكن الناحية من جر شاحنات ومعدات ثقيلة كانت قد غنمتها في المعركة. بقيتُ أنا مع محمد لمين ولد البوهالي في انتظار أن يأتي “اتفاگي”؛ محمد وأحماد.

في اليوم الموالي جاءنا محمد وسعيد وأخبرانا بتفاصيل الجبهة التي خاضتها وحدات الناحية الأولى، وإصابة رفيق الرحلة أحماد ونقله مع بقية الجرحى لتلقي العلاج.
تركنا سيارتنا التي أصيبت بعطب فني بسيط عند الناحية الثانية وامتطينا (محمد وأنا) سيارة لاندروفير تم غنمها في معركة الأمس.
طلب مني محمد التحرك جنوبا دون أن أعلم وجهتنا. وإذ كنا إثنين فقط في السيارة، فقد أشرت عليه أن نصطحب معنا من يرافقنا في السفر إذا كنا سنسافر مسافة طويلة. لكنه أجابني بلازمته؛ “مانا امبعدين. ألا حدنا هون!”.
هكذا، سافرنا معا نحن الاثنين فقط، بعد أن أصيب ثالثنا (أحماد) في معركة الأمس.
من أقصى الشمال اتجهنا جنوبا. وصلنا إلى نواحي لحفيرة حيث ترابط الناحية العسكرية الرابعة بقيادة بنة ولد أباّها رحمه الله. ومن لحفيرة كان القرار زيارة “أگرایر فرلّي” حيث يوجد مركز لاستقبال الصحراويين الذين قرروا الانطلاق إلى المخيمات. هذه المرة كنا في السيارة ثلاثة، محمد وبنة وأنا. ورافقتنا في الرحلة سيارة بنة التي يمتطيها مجموعة قليلة من المقاتلين، عرفت منهم سائقها الشهيد أبا عالي ولد حمودي والشهيد عمار ولد أحمد ولد الشيخ مبارك. ولم يكن لي سابق معرفة ببقية المقاتلين الذين رافقونا في الرحلة. (ملاحظة من كاتب هذه الأسطر: من تسجيل للشهيد أبا عالي يذكر بقية المرافقين: الشهيد محمد امبارك ولد رمضان، خطري بهاها وآخر).
انطلقنا من الناحية الرابعة باتجاه “أگراير فرلِّي”. وهي كما أسلفت، مركز لاستقبال انطلاقات الصحراويين القادمين من الجنوب خاصة من انواذيبو ونواحيها المتجهين إلى المخيمات.
بعد زيارة گرایر فرلي والوحدة العسكرية المرابطة هناك، قرر محمد الذهاب إلى ميجك.
في طريق العودة هبت عاصفة رملية قوية. وكان بنة هو من يتولى قيادة السيارة لخبرته بتلك الأرض ولفراسته التي عُرف بها. كنا كلما تقدمنا في مسيرنا اشتدت الزوبعة وصعُبت الرؤية، فاقترح محمد على بنة أن نتوقف حتى تنجلي الرؤية لكن بنة أجابه أن لا داعيّ للأمر “خلونا نگطعو شي من التراب وميجك ما عنها اذهاب”. على طول الطريق كان الشهيدين محمد و بنة كل منهما يمازح الآخر وهو ديدنهما كلما التقيا. كنت أشارك الشهيد محمد بطانية نخفي فيها رؤوسنا من الرياح العاصفة أما بنة فكان يقود السيارة بصعوبة بسبب الرياح الهوجاء مستعينا بنظارات عسكرية لأحماد ليقي عينيه. الصمت الذي ساد برهة قطعه بنة وهو يقول “هذي بعد دشرة تبان” أجابه محمد دون أن يرفع رأسه “ألا بينك معاها ذيك الدشرة”. وبعد وقت قصير أوقف بنة السيارة ووصلنا صوته: ” آح هذي الزويرات” فرفعت رأسي بدافع الفضول. لكن ما رأيت لا يشبه في شيء الزويرات. سأل محمد بنة؛ ” الوقت اللي قلت ألنا عنك شفت دشرة، مندرا كانك شفت كبة كبيرة (مكب للنفايات) ؟ أجاب بنة: نعم. أضاف محمد: وشفت أحذا الكبة أشجار إيگنین؟ أجابه بنة إيجابا. حينها قال محمد؛ “أنا ما گط جيت لذي التراب، يغير حسب دراسة الموقع اللي نعطات لي هذي بير انزران!” أجابه بنة : ” يگلع بوك يا محمد نحن جايين من أگراير فرلي گايسين ميجك. أخبارك يا بير انزران أصّ؟!” . نزلنا من السيارة لتفقد الموقع وكانت المفاجأة لقد كنا في قلب حامية بير انزران وتجاوزنا دفاعات الحامية دون أن نتفطن(لم يتم بناء الأحزمة الرملية في ذلك الوقت). حين توقفنا كنا على مرتفع ترابي وتحت ناظرنا، قريبا منا، الحامية العسكرية المغربية أشبه بخلية نحل تعج بالجنود ومختلف الأسلحة وسيارات الجيمسي ولاندروفر وغيرهما من الآليات العسكرية الأخرى.
قال محمد ونحن نطل على المشهد المهيب: “سعدك اللي عندو ذرك مدفع 14.5 ..لاهي يستغرظ غايتو أگبال!.
الجنود المغاربة كانوا يروننا بالعين المجردة، لكن لم تساورهم شكوكا لأن سيارتنا (وهي في المقدمة) سيارة عسكرية مغربية، غنمناها للتو كما أسلفنا، ولاعتقادهم باستحالة أن يتقدم “عدوهم” كل هذه المسافة في واضحة النهار. أدركتُ أننا في مأزق وأن علينا التحرك بسرعة. فقلت لمرافقيّ بلغة بين جد ومزاح؛ أنا بعد ماشي واللي باغي يتافگني باسم الله! وكانت غايتي هي أن أسبق بنة إلى مقود السيارة فلابد أن التعب قد نال منه. التحق بي محمد وبنة وانطلقت السيارة الأخرى التي ترافقنا والتي يقودها الشهيد أبّ عالي قبلنا بثوانٍ. وبمجرد أن هممتُ بالتحرك إذ بنا نتعرض لوابل من الرصاص كثيف، فقد تفطن الجنود المغاربة لأمرنا. زخات الرصاصات الأولى كسرت بندقيتي التي كنت أسندها إلى جانبي بحذاء باب السائق. واخترقت زخات رصاص أخرى گندورة محمد، دون أن تصبه، واستقرت في محرك السيارة التي توقفت فورا عن الحركة. نزلنا من السيارة المتعطلة.

في تلك اللحظة التي أحدق فيها الموت بنا عرفتُ معدن الرجل، شاهدت بأم عيني موقفا ومشهدا لن أنساه ما حييتُ؛ إقدام الشهيد أبا عالي وجرأته وشجاعته. فقد رأى مرافقيه أن سيارتنا توقفت عن الحركة وشاهد هو وصحبه الموقف العصيب الذي نعيشه تلك اللحظات فلم يتردد لحظة. خاض بسيارته نيران العدو غير آبهٍ بالموت المحدقِ وحين وصلنا أخذ يدور بنا وبسيارتنا المتعطلة بمهارة تفوق الوصف، ونحن في كل مرة نرمي في سيارته معداتنا ومتاعنا حتى أفرغنا سيارتنا المتعطلة من حمولتها ثم قفزنا تباعا في السيارة وانطلقنا بسرعة البرق. كل ذلك ذلك تم في دقائق مرت كأنها لمح البصر وتحت وابل رصاص العدو. هكذا، انقذنا الشهيد أبا عالي من الموت المرة الأولى. لكننا لم ننجُ حينها تماما، فسرعان ما تعطلت السيارة، ونحن لا نزال في مرمى نيران العدو الذي يمطرنا بنيران أسلحته. عندها تحققنا من أن موعد الشهادة قد أزف. قال لنا محمد “لا تتركوا العدو يأسركم أحياء. الموت أكرم”. ورأيت بعيني محمد عبد العزيز وبنّة قد باشرا في عمل ساتر ترابي وأخذا وضعية القتال. أما أبا عالي فكان يفكر بأمر آخر. نزل مسرعا وطلب مني أن أفتح غطاء السيارة وأن أُدير مانيفيل وهو يقول كمن يحدث نفسه؛ “هذي لاهي يعود ألا الفيس”. كان منهمكا في إصلاح عطب السيارة تحت وابل الرصاص واقتصر دوري على تحريك مانيفيل. كلما طلب ذلك. وأخيرا، اشتغلت السيارة فيما يشبه المعجزة وطلبنا من مجموعة المقاتلين ركوب السيارة وطلب مني أبّ عالي قيادتها بدلا عنه فقد آثرني على نفسه. كان الشهيدان بنة ومحمد إلى جانبي في المقاعد الأمامية، أما الشهيد أبّا عالي الذي انقذنا من الموت المؤكد للمرة الثانية حين أصلح عطب السيارة، فقد انضم إلى رفاقه في حوض السيارة.
حين خرجنا عن مرمى أسلحة العدو فاجأني محمد وهو يطلب منا التوقف لشرب الشاي وتناول بعض الشواء. لكنني قلت له بلهجة مازحة؛ “مانلا ما نوقفو هون. ذيك ماهي حزم!”. وتوقفنا فعلا بعد أن أصبحنا في أمان حيث تناولنا الشاي وتبادلنا الأحاديث والنكات وكأننا لسنا نحن الذين كنا قاب قوسين من الموت المحقق!.
هكذا تعرفتُ على الشهيد أبّ عالي في موقف تُعرفُ فيه معادن الرجال، وعرفتُ في الشهيد جرأة وشجاعة وإقداما إلى تواضع جم وبساطة ودماثة خلق وطيب معشر وإيثار لا حدود له.
رحم الله الشهيد أبّا عالي ولد حمودي وجزاه الله خير الجزاء.
ورحم الله الشهداء الذين ورد ذكرهم في هذه الشهادة وشهداء الشعب الصحراوي جميعا.

رحم الله معشر الشهداء.

هذه شهادة المقاتل وجريح الحرب المقاتل أحمد ولد البشير ولد بنجارة في حق أخيه ورفيق السلاح الشهيد أبّ عالي حمودي الناجم
#محمد السْلامة الداهي.