مملكة الرٌّعب “الأسلحة التكتيكية” التي تستعملها “الدولة العميقة” في المغرب لإخراس معارضيها
ثلاث قصص وثلاثة مسارات وثلاثة مصائر متقاطعة، لكنها متشابهة وبنهايات واحدة، لثلاثة من أشهر الصحافيين الذين عرفهم المغرب في العشرية الأخيرة، كانوا بمثابة آخر حلقة من حلقات الصحافة المستقلة في المغرب خلال العقدين الأخيرين.
آخر صحيفة مستقلة في المغرب، شبه فارغة، فأغلب الصحافيين غادروا مقر الصحيفة بعد أن أغلقوا عدد نهاية الأسبوع المضني. داخل مكتب مدير المؤسسة كانت الإنارة ما تزال مضاءة، فقد تَعوّد توفيق بوعشرين، مؤسس الصحيفة ومدير نشرها، أن يكون آخر من يغادر مقر الجريدة. وهو ينظم أوراقه ويرتب مواعيد الأسبوع الموالي، داهم حشد من الرجال الغرباء المكان. لم يكونوا سوى “كتيبة” من ضباط الشرطة من مختلف الأقسام والرتب، وعلى رأسهم ضباط الشرطة القضائية، بعدما حاصروا مقر الجريدة واحتلوا المصاعد وأغلقوا باب عمارة “الحبوس” في قلب مدينة الدار البيضاء. كان الوضع أشبه بإنزال أمني مباغت ومكثف نفذه أربعون فرداً من عناصر الأمن والمخابرات الداخلية، حسب ما ستؤكده لاحقاً صحيفة “أخبار اليوم”، وكان الهدف هو اعتقال بوعشرين مؤسسها ومدير نشرها. بعد أربع سنوات سوف يتكرر نفس السيناريو مع رئيس تحرير نفس الصحيفة، الذي تسلم المشعل من توفيق بوعشرين. كان سليمان الريسوني، الصحافي الذي اشتهر بحواراته المطولة مع السياسيين المغاربة، وبلغة مقالاته الافتتاحية المباشرة، قد أمضى سنتين على توليه مسؤولية رئاسة تحرير “الصحيفة المزعجة” في ظل ظرفية اقتصادية صعبة، بعد أن أٌغلقت أمامها جميع أبواب الإعلانات وانقطع عنها الدعم العمومي. كان سليمان يفكر في مغادرة السفينة، ليس هربا من المسؤولية ولا بسبب صعوبة الوضع المادي، وإنما أملاً في إفساح المجال ومنح فرصة حياة جديدة لـ”أخبار اليوم” في حال اختفى اسمه وافتتاحياته القاسية من صفحتها الأولى. لكن، عندما أوقف سيارته، مساء يوم الجمعة 22 ماي 2020، أمام بيته حدث ما كان يتوقعه. نفس الرجال الغرباء، هذه المرة “كتيبة” قوامها 15 عنصرا ينتمون إلى الشرطة القضائية وعناصر شرطة بلباس مدني، ستطبق على المكان وتغلق الأزقة وكان الأمر النافذ هو اعتقال الريسوني.أما عمر الراضي، الصحافي المستقل، فكان من الصعب اعتقاله في مقر صحيفة، لأنه مثل طائر مهاجر لا يحب أن يحبس نفسه داخل قاعة تحرير تحدّ من حريته، ولا تحت أي خط تحريري يضع سقفا لجرأته. لم يكن الراضي يمتهن الصحافة فقط، وإنما كان يعشقها مثل الموسيقى التي ألف أن يعزفها لنفسه ولأصدقائه، لأنه كان يجد فيهما متعته وراحته وفرحته؛ وهو الذي لم تكن الابتسامة تفارق محياه. لذلك طالما سخر من فكرة أن يجد نفسه ذات يوم معتقلا بسبب كتاباته وأفكاره. مثلما تٌستدرج الطيور النادرة إلى المصيدة، تم استدراج الراضي تدريجيا عبر استنطاقات ماراثونية أخضعته لها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية حول أعماله الصحافية، وعبر التنصت على هاتفه المخترق بواسطة برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي، قبل أن يتابع قضائيا بلائحة من التهم منها “المس بسلامة الدولة” و”التخابر مع عملاء دولة أجنبية” و”الاغتصاب”.ثلاث قصص وثلاثة مسارات وثلاثة مصائر متقاطعة، لكنها متشابهة وبنهايات واحدة، لثلاثة من أشهر الصحافيين الذين عرفهم المغرب في العشرية الأخيرة. كانوا بمثابة آخر حلقة من حلقات الصحافيين المستقلين الذين أنجبتهم الصحافة المستقلة في المغرب، خلال عشرين سنة الماضية، قبل أن تتخطّفهم السبل، منهم من اعتقل كالثلاثة، ومنهم من هاجر فارّاً بجلده إلى المنفى، ومنهم من غادر مهنة المتاعب وترك الجمل بما حمل، ومنهم من خلد إلى الصمت حيطة وحذرا ومنهم من مازال ينتظر، لكنهم لم يبدلوا تبديلا.القصص الثلاث، موضوع هذا التحقيق، تتقاطع فيها المعلومات وتتداخل فيها الحكايات، لكن يجمعها خيط ناظم واحد تلخصه الأسئلة الثلاثة التي تؤطر خلفية هذا التحقيق: لماذا يٌستهدف الصحافيون المستقلون في المغرب بتهم جنائية؟ ومن يقف وراء استهدافهم؟ وما هو الهدف الأخير من إخراس آخر الصحافيين المستقلين في المغرب؟تتشابه التهم والمآل واحدفي 25 أكتوبر 2019، قضت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بسجن الصحافي توفيق بوعشرين، مؤسس صحيفة “أخبار اليوم” المستقلة، 15 سنة سجنا نافذا، بعدما رفعت عقوبته من 12 سنة، وهو الحكم الذي قضت به قبل ذلك محكمة ابتدائية، في نونبر 2018، بالإضافة إلى ملايين الدراهم المغربية (مليونين و500 ألف درهم، أي ما يعادل 250 ألف يورو) عبارة عن غرامات وتعويضات للمشتكيات. في 25 فبراير 2022، أكدت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء الحكم الابتدائي بسجن الصحافي سليمان الريسوني، والقاضي بالحكم عليه خمسة أعوام سجنا نافذا بتهمة “الاعتداء الجنسي” على شاب مثلي، في قضية أثارت اهتماما واسعا، ومطالب بالإفراج عن الصحافي، الذي اشتهر بافتتاحياته الجريئة المنتقدة للنظام وللأجهزة الأمنية على الخصوص.في 3 مارس 2022، أدانت محكمة استئناف الدار البيضاء الصحافي المغربي عُمر الرّاضي بالسجن ست سنوات نافذة، وذلك في قضيتين منفصلتين تماماً – “الاغتصاب” و”التجسّس” – جرى التحقيق والبتّ فيهما خلال نفس المحاكمة، خلافاً لأي منطق قضائي.تهم هؤلاء الصحافيين كلها جنائية بل وأكثر من ذلك فهي ذات طبيعة أخلاقية، تؤكد الهيئات التي تدافع عنهم، سواء داخل المغرب أو خارجه، أن الهدف منها ليس فقط نزع المصداقية من هؤلاء الصحافيين المنتقدين وإنما تشويه سمعتهم داخل مجتمع مغربي محافظ في غالبيته؛ وفي نفس الوقت حرمانهم من كل تعاطف مهني أو مساندة حقوقية داخل وخارج المغرب. وقبل كل ذلك، يؤكد المتضامنون، أن الهدف من تلك الأحكام هو الإعدام المعنوي لأصحاب هذه الأصوات المزعجة، عبر محاكمات إعلامية تنطلق، قبل أن تبدأ محاكماتهم القضائية وتصدر أحكامها الجاهزة والقطعية، عبر آلة صحافة التشهير المتهمة بقربها من أجهزة الأمن.بداية القصةتكاد قصة هذا التحقيق تكون بدون بداية محددة، وما الأحداث التي أوردناها سابقا سوى سلسلة في تاريخ طويل من الملاحقات لكل الأصوات المختلفة والمستقلة، وليس فقط المنتقدة والمزعجة. طيلة العقد الأول من هذا القرن، شهد المغرب حالات قمع عديدة لمعارضين ومحاكمات لصحافيين، لكن كانت ثمة دائما لحظات انفتاح تتيح تنفيس حالة الضغط، إلى أن انفجرت الأوضاع في 20 فبراير 2011، وشهد المغرب موجة احتجاجات واسعة تطالب بالتغيير، عرفت بـ “حركة 20 فبراير”، وهي النسخة المغربية من “الربيع الديمقراطي”، لكن سرعان ما عرف النظام كيف يلتف على مطالبها بوعود ستكشف السنوات مدى زيفها. لكن السلطة تعلمت الكثير من تلك الاحتجاجات الشعبية التي قادها الشباب اعتمادا على تقنيات التواصل الحديثة، ومع موجة “الثورات المضادة” المدعومة من طرف أنظمة الخليج، سينتقل النظام في المغرب من حالة الدفاع عن نفسه واستمراره إلى حالة الهجوم على معارضيه وإخراس كل الأصوات المنتقدة معتمدا على تقنيات جديدة ومتطورة فصّلها تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش، يوم 22 يوليوز 2022، في 99 صفحة، تحت عنوان مثير “فيك فيك” (سينالون منك مهما كان).يقول التقرير إن الهدف من “تكتيكات” القمع التي باتت تستعملها السلطات المغربية، “ليس إسكات الأصوات المعارضة فحسب، بل أيضا ترهيب كل المنتقدين المحتملينّ”. وتتمثل هذه “التكتيكات” في المراقبة الرقمية والتصوير السري، وحملات التشهير على وسائل إعلام تابعة لأجهزة الدولة العميقة، واستهداف الأقارب، وفي بعض الحالات الترهيب والاعتداءات الجسدية التي تقول الشرطة دائما إنها لم تستطع التوصل إلى هوية مرتكبيها، قبل الانتقال إلى المحاكمات المفبركة والأحكام الجائرة بالسجن لمدد طويلة بتهم جنائية لا علاقة لها بحرية التعبير. تقرير هيومن رايتس ووتش فحص 12 حالة، من بينها الحالات موضوع هذا التحقيق، وكل الاتهامات ضد هذه الحالات الثلاث أجمعت أبرز المنظمات الحقوقية والمهنية، كالجمعية المغربية لحقوق الانسان، ومراسلون بلاحدود، ومنظمة العفو الدولية (أمنستي)، وهيومن رايتس وتش، وفرونت لاين ديفندرز، ولجنة حماية الصحافيين، على أنها ملفقة. وتم انتقادها بشدة في تقريرين صادرين عن مجموعة العمل المكلفة بالاعتقال التعسفي، التي تعمل تحت وصاية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الأول صدر في قضية بوعشرين في مارس 2019، والثاني صدر في قضية الريسوني في أكتوبر 2022، وكلاهما اعتبر اعتقال ومحاكمة الصحافيين تعسفيا وغير قانوني، وطالبا السلطات المغربية بالإفراج الفوري عنهما بل وتعويضهما عما لحق بهما من أضرار.في سياق هذا التحقيقأثناء إعداد هذا التحقيق سيعتقل أحد المشاركين فيه، يتعلق الأمر بالنقيب ووزير حقوق الإنسان الأسبق، محمد زيان، الذي اعتقل يوم 22 نونبر 2022، بعد تأييد محكمة الاستئناف بالرباط حكما قضائيا بسجنه ثلاثة أعوام، على خلفية دعوى رفعتها ضده وزارة الداخلية. لكن زيان يؤكد أنه مستهدف، والمدافعون عنه يؤكدون أنه لم يعتقل بسبب هذا الحكم، وإنما بسبب مواقفه وانتقاداته، وخاصة في الفترة الأخيرة قبل اعتقاله، عندما بدأ يتوجه بالنقد المباشر لـما وصفه بـ”البنية السرية” التي تحكم المغرب، والغياب المستمر للملك بسبب أسفاره التي تستغرق أحيانا عدة أشهر خارج المغرب. أيضا، بينما كنا نضع اللمسات الأخيرة على هذا التحقيق، أقرّ البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة، في 19 يناير الماضي، مقرّرا يدعو السلطات المغربية لاحترام حرية التعبير والصحافة، والإفراج عن الصحافيين المعتقلين، والوقف الفوري لجميع المضايقات ضد جميع الصحافيين ومحاميهم وعائلاتهم. وفي وقت سابق طالب نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، بإطلاق سراح سليمان الريسوني وتعويضه عن الضرر . وحث المقرّر الأوروبي السلطات المغربية على احترام حرية التعبير وحرية الإعلام وتوفير محاكمات عادلة للصحافيين المسجونين، ولا سيما عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، مع المطالبة بالإفراج الفوري عنهم. كما طالب المقرّر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن تصدير تكنولوجيا المراقبة إلى المغرب، بما يتماشى مع لائحة الاستخدام المزدوج للاتحاد الأوروبي.حالة توفيق بوعشرين.. “الافتتاحيات أم الفتيات”؟كل التكتيتكات التي تحدث عنها تقرير هيومن رايتس ووتش تنطبق على حالات الصحافيين الثلاثة، موضوع هذا التحقيق، والبداية مع توفيق بوعشرين الذي عرف بافتتاحياته القوية، التي تنتقد السلطة وممارساتها غير الديمقراطية؛ لذلك حين سئل رئيس الحكومة السابق الإسلامي عبد الإله بنكيران، عن رأيه في اعتقال بوعشرين، الذي كان يوصف بأنه مقرب من “الإسلاميين المعتدلين”، رد بنكيران بأن “بوعشرين اعتقل بسبب الافتتاحيات وليس بسبب الفتيات”، في إشارة إلى افتتاحيات بوعشرين التي كانت تنتقد استحواذ المحيط الملكي على كل السلطات، وفي إحالة أيضا على التهم التي أدين بها بوعشرين المتعلقة بـ “التحرش والاغتصاب والاتجار في البشر”. وهذا الرأي سيؤكده أيضا الصحافي المغربي المخضرم حميد برادة، الذي كان كبير مراسلي مجلة “جون أفريك” المقربة من أوساط صنع القرار في المغرب، وكان له برنامج أسبوعي على القناة الثانية الرسمية المغربية.كان اسم توفيق بوعشرين حاضرا في الساحة الإعلامية بقوة من خلال الجريدة التي أسسها وأدارها “أخبار اليوم”، حتى تحولت إلى واحدة من أكثر الصحف مقروئية واستقلالية وتأثيرا خلال العشرية الأخيرة، قبل أن تٌغلق لأسباب مادية مرتبطة بمحنة صاحبها عام 2021. وطيلة مساره الصحافي عٌرف بوعشرين بصوته المعتدل، لكن التحول سيبدأ مع تولي حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المعتدل رئاسة الحكومة عام 2011، حيث تحول بوعشرين وصحيفته إلى منبر لصوت هذا الحزب وأمينه العام السابق والحالي، عبد الإله بنكيران، الذي تولى رئاسة الحكومة من عام 2011 حتى 2016. وعندما قرر القصر، عام 2016، إعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة، بالرغم من أن حزبه جاء متصدرا نتائج الانتخابات، وتعيين نائبه الأول داخل نفس الحزب سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، كان بوعشرين أحد أشرس المدافعين عن بقاء بنكيران على رأس الحكومة احتراما لـ “المنهجية الديمقراطية”، ولروح الدستور المغربي، وبدأ في نشر افتتاحيات قوية تنتقد منهجية المحيط الملكي في التلاعب بنتائج الانتخابات، وصنع أغلبيات رقمية لم تفرزها صناديق الاقتراع. كانت أقوى تلك الافتتاحيات تلك التي حملت عنوان “قول الحقيقة للملك”، وفيها يحيل بوعشرين على حوار بين أحد المثقفين الإيرانيين المساندين للنظام الملكي في عهد الشاه، وبين شاه إيران في آخر أيامه قبل الإطاحة به، وفيها يقول بوعشرين على لسان المثقف الإيراني موجها كلامه، بطريقة ضمنية، إلى الملك المغربي : “يا مولاي، الحكم التقنوقراطي الذي أقمته حولك، ولم تكن لديه الوسائل ولا الثقافة ولا المعرفة لسماع صرخة الحقيقة في الشارع، هو الذي منع عنك الحقيقة”. وعندما مضى الوقت ولم يستمع أحد إلى حقيقة بوعشرين، عاد بافتتاحية أقوى تحت عنوان مثير “الحكم ليس نزهة على شاطئ البحر“، وكانت الإشارة هذه المرة واضحة والخطاب مباشرا موجها إلى ملك المغرب “المولوع برياضة ركوب الأمواج”، عندما خاطبه كاتب الافتتاحية بهذه الكلمات اللاذعة “ليس صحيحا ما قاله نابليون من أن العرش مجرد كرسي خشبي مطلي بالذهب.. العرش مسؤولية أمام الشعب، وأمام التاريخ، وأمام الله في بلاد يؤمن شعبها بأن الحساب والعقاب قانون لا يستثني أحدا يوم القيامة”. وكلما كان بوعشرين يٌصّعِّد نبرة افتتاحياته، كانت آلة التشهير تفتك بلحمه النيئ، عبر مقالات تشهيرية تَنضحٌ غلا وحقدا ضده وضد أسرته تنشرها مواقع معروفة بارتباطها بأجهزة الأمن، وخاصة ما يٌنعث في المغرب بـ “البوليس السياسي“، تمهيدا للإطاحة به. لكن ما لم يكن بوعشرين يعلمه هو أن مكتبه كان ملغما بكاميرات خفية، لا يٌعرف مَنْ دسّها ومتى، وهي مصدر نفس التسجيلات التي ستُسعمل كـ”أدلة” ضده. وبالنسبة لأحد أعضاء دفاعه ممن تحدث إليهم المتحري، فلا أحد يمكنه أن يضع تلك الكاميرات غير جهاز منظم، وإلا كيف عثرت عليها الشرطة في أول اقتحام لمكتب بوعشرين؟ كما سيكشف عن ذلك بوعشرين نفسه في مرافعته أمام المحكمة، مؤكدا بأن مكتبه كان ملغما بالكاميرات أربع سنوات قبل اعتقاله.تقنية الابتزاز عبر وضع كاميرات لمعارضي النظام داخل مكاتبهم أو في بيوتهم، سبق أن لجأت إليها السلطات المغربية مع المناضل الحقوقي المغربي فؤاد عبد المومني، الذي عندما وصلته فيديوهات على الخاص تتضمن مشاهد حميمية له مع شريكة حياته في غرفة نومهما، لم يخضع للابتزاز، وإنما قام بفضح ما كان يتعرض له من ابتزاز من قبل “البوليس السياسي” المغربي على موقع “ذي إيكونوميست” البريطاني. هكذا تم اعتقال بوعشرين يوم 23 فبراير 2018 داخل مكتبه، ووجهت له التهم الثقيلة التي أدين بسببها بـ 15 سنة سجنا نافذا، قضى منها الآن 5 سنوات. لكن هل كل الاتهامات التي وجهت إليه كانت حقيقية وثابتة؟ كل المنظمات الحقوقية التي تابعت المحاكمة الماراثونية لتوفيق بوعشرين، والتي استغرقت سنتين، سجلت بأن المحاكمة كانت “سياسية” وغابت عنها شروط “المحاكمة العادلة”. وكانت أقوى ردود الأفعال هي الرأي الصادر يوم 23 نونبر 2019، عن “مجموعة العمل حول الاعتقال التعسفي التابع لمجلس حقوق الإنسان/ الأمم المتحدة“، والذي يرى أن حرمان الصحافي توفيق بوعشرين من حريته هو اعتقال تعسفي مخالف للمواد 9 و14 و19 من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، والذي صادق عليه المغرب، وطالب الحكومة المغربية بالإفراج الفوري عنه وتعويضه وتقديم الضمانات بعدم تكرار ما حصل معه.هذا الرأي يتردد على لسان كل المصادر التي استمع إليها معد هذا التحقيق من دفاع وأفراد أسرة بوعشرين. وبالنسبة لمن تابع هذه القضية فهذا الرأي لا يحمل جديدا، لكن المفارقة هي أن أيا ممن تحدث إليهم المٌتحَرّي، باستثناء بعض أفراد العائلة، طلبوا عدم الإشارة إلى هوياتهم، بما في ذلك أعضاء من هيئة الدفاع. ولمعرفة سبب “الخوف” الذي ينتاب الكثيرين من الاقتراب من هذا الموضوع بما في ذلك هيئة الدفاع، المحصنة قانونيا، هو المآل الذي تعرض له عناصر هيئة دفاع بوعشرين التي كانت تتكون في البداية من عدة محامين متطوعين، وانتهت بأربعة محامين فقط، إثنان منهما تعرضا لضغوطات ومضايقات، كما صرحا بذلك للمتحري، جعلتهما يبتعدان عن هذا “الملف الحارق” كما يصفانه، واثنان منهما، بما فيهما محام تطوع بمتابعة أطوار المحاكمة كمراقب لمنظمة هيومن رايتس وتش، سيكون الانتقام منهما قاسيا، فقد اعتقل ابناهما معا في قضية مفبركة بتهمة “بيع كمامات مسمومة“؛ والحال أن الأمر يتعلق بأقنعة طبية استورداها عشية انتشار جائحة كورونا في المغرب، وتم الحكم بالسجن النافذ ثلاث سنوات لأحدهما و10 أشهر للثاني. وكان الحكم المشدد من نصيب ابن المحامي الذي رفض الخضوع للابتزاز وهو النقيب محمد زيان، الذي سبق له أن شغل منصب وزير حقوق الإنسان في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، في تسعينات القرن الماضي. وفي حديثه مع المتحري صرح زيان، وهو العضو الوحيد من دفاع بوعشرين، الذي سمح بكشف اسمه وصفته، بأن ما تعرض إليه موكله هو “انتقام” وليس حكما عادلا، لأن الهدف منه هو “إسكات صوته وترهيب كل من يجرؤ من بعده على الانتقاد”، وعندما سئل زيان عمن يقف وراء هذا “الانتقام” أجاب بدون تردد “إنه البوليس السياسي الذي حول المغرب إلى مملكة الرٌّعب”.جرأة هذا المحامي، سيدفع ثمنها غاليا، ومازال، فقد اعتٌقل ابنه بتهمة استيراد “كمامات مسمومة”، وهي تهمة اعتبرها كيدية كان الهدف منها ليّ ذراع المحامي المزعج، وعندما لم يرتدع سيكون موضوع تشهير، حيث تم توضيب فيديو مفبرك له، للإيهام بأنه يمارس الجنس مع إحدى موكلاته، لكن سرعان ما اتضح أن الفيديو “غير الأخلاقي” الذي نشره أحد مواقع التشهير الإلكترونية المحسوبة على المخابرات المغربية، مفبرك. واعتمد المحامي على خبرة أمريكية لإثبات ذلك، وعندما قام برفع دعوى ضد الموقع الذي نشره وسحبه بعد ذلك، تم حفظ القضية! وظل النقيب زيان معرضا للمضايقات طيلة السنوات الثلاث الماضية، شٌطِّب على اسمه من سلك المحاماة وأٌفرغ بالقوة من مكتبه في الرباط، وأثناء إعداد هذا التحقيق تم اعتقاله وإيداعه السجن لقضاء عقوبة حبسية، ثلاث سنوات نافدة، على خلفية دعوى قضائية رفعتها ضده وزارة الداخلية.تعبير “البوليس السياسي” هو نفس المصطلح الذي اجترحه المؤرخ المغربي، المعروف بمواقفه المعارضة، المعطي منجب، في وصفه لآلة القمع السرية في المغرب، وهو ما جعله يؤدي الثمن غاليا عندما اعتقل بتهم من نفس صكوك الاتهام الجاهزة التي وصفها تقرير هيومن رايتس ووتش بـ “التكتيك”. في عام 2015 وٌجِّهت إلى منجب تهمة “المس بأمن الدولة وتهديد الأمن العام”، وفي العام 2020 وجهت له تهمة “غسيل الأموال” و”تلقي الدعم الخارجي”، وفي نفس العام سيزج به في السجن قبل أن يفرج عنه، بعد خوضه إضرابا عن الطعام وتحت ضغط الرأي العام الحقوقي المغربي والدولي، ومنذ خروجه من السجن وهو يعيش مٌقيَّد الحرية ممنوعا من السفر إلى الخارج، وتم فصله من عمله بالجامعة وفرض الحجز على حسابه البنكي وعلى ممتلكاته بما في ذلك بيته وسيارته، وطال هذا الحجز حتى بعض أفراد أسرته. وفي تصريحه للمتحري يقول منجب، الذي مازال يصنف ضمن الأصوات القليلة القادرة على النقد من داخل المغرب، إن ما يتعرض له هو انتقام بسبب مواقفه المنتقدة لبنية النظام السري في المغرب، والتي سبق أن كتب عنها مقالا في صحيفة “القدس العربي“ في نوفمبر 2020، جاء فيه “هاته البنية شبه سرية لأن أغلب أعضائها غير معروفين للعموم، كما أنها غير رسمية، ولكن فعاليتها كبيرة في ما يخص تحريك وتوجيه جزء كبير من النخبة السياسية والضغط والإلهاء، بل واستنزاف ما يمكن أن نسميه النخبة المضادة”. وحسب منجب الذي مازال يتعرض يوميا لوابل من “مقالات التشهير” على المواقع المحسوبة على نفس “البنية السرية” التي ينتقدها، فإن اعتقال ومحاكمة توفيق بوعشرين كانت فيها إشارة إلى المعارضة المعتدلة والإصلاحية، مفادها أن “صوتها لم يعد يطاق وقد آن لها أن تخرس”. وبالنسبة لمنجب، المؤرخ المتخصص في تاريخ المغرب المعاصر، فإن ما يشهده المغرب اليوم هو “أسوأ مما كان عليه الأمر في سنوات الرصاص، فعلى الأقل كان المعارضون في سبعينات القرن الماضي يحاكمون بتهم سياسية على مواقفهم وآرائهم من النظام، ورغم حالة القمع الرهيب التي سادت في تلك السنوات إلا أن الأحزاب السياسية كانت تجرؤ على المعارضة والنقابات تحتج في الشوارع، اليوم يريد النظام أن يخرس الجميع، وفي هذا خطر عليه وعلى وجوده لأن الأصوات المعارضة والمنتقدة هي بمثابة مجسات إنذار تنذر بالكوارث قبل وقوعها”.حالة عمر الراضي.. النبش في عش الدبابيرلم يكن عمر الراضي، الصحافي الاستقصائي، معروفا بصوته المنتقد فقط، والذي جعله يتحول بين أقرانه إلى “أيقونة” شباب “حراك 20 فبراير”، وإنما عرف من قبل زملائه بحرفيته العالية عندما ينكب على إحدى تحقيقاته الصحافية، والتي غالبا ما يكون موضوعها حساسا ملتهبا يصعب الاقتراب منه، وبحكم تكوينه الاقتصادي وخبرته في مجال التكنولوجيا الرقمية، اتجه الراضي مبكرا إلى التحقيق في المواضيع ذات الطبيعة الاقتصادية والأمن الرقمي. وكان آخر تحقيق يشتغل عليه لحظة اعتقاله يوم 29 يوليوز 2020، يتعلق بمصادرة أراضي قبلية من طرف الدولة قبل تفويتها إلى خواص مقربين من المحيط الملكي، وهو التحقيق الذي نشر مؤخرا بعد أن قام صحافيون متطوعون بإتمامه وتبنته منظمة “فوربيدن ستوريز” (قصص ممنوعة)، ونشرته عدة صحف عالمية من بينها “لوموند” الفرنسية و“لوسوار” البلجيكية وموقع “درج” اللبناني. بدأت قصة الراضي عندما اختار أن يكون صحافيا مستقلا متمردا على كل قاعات التحرير، وكاسرا للأعراف التقليدية في منطقتنا العربية، فهو كان يختار مواضيعه بنفسه ويبدأ التحري والتحقيق فيها على نفقته الخاصة، وعندما يكتمل تحقيقه يبحث عن وسيلة الإعلام التي يٌقدِّر أنها تستطيع أن تنشر تحقيقه بدون حذف أو تعديل. كان الراضي بمثابة “محقق خاص” يحمل حاسوبه وآلة تصويره على كتف وعلى الكتف الأخرى يحمل القيثارة التي لم تكن تفارقه، يعزفها وحيدا في لحظات تأمله وتفكيره. لم يكن الراضي يهاب القضايا الحساسة أو النبش في عش الدبابير، وهو الذي اختار أن يكون صحافيا استقصائيا بامتياز، وفي قضايا حارقة وخطيرة، في بلد تعود حاكموه أن يحكموه بسلطة الخوف والترهيب.كان الراضي يعرف أن تحقيقاته تشكل مصدر خطر بالنسبة إليه، وكان مدركا بأنه مٌراقَب، ومع ذلك لم يثنه ما كان يتعرض له من مضايقات وتهديد عن بحثه عن الحقيقة أو عن الجهر برأيه في قضايا حساسة. وعندما أصدرت إحدى المحاكم المغربية حكما قاسيا ضد نشطاء “حراك الريف” في المغرب، لم يسكت الراضي وغرد على حسابه على تويتر، في أبريل 2019، منتقدا القاضي الذي أصدر الحكم ووصفه بـ “الجلاد”، وكتب “لا نسيان ولا مغفرة مع هؤلاء الموظفين بلا كرامة! “. ومباشرة فتحت السلطات التحقيق معه في حالة سراح بتهمة “إهانة القضاء”، واستمر التحقيق شهورا، حتى حل الراضي، يوم 12 دجنبر 2019، ضيفا على “ّراديو م” في العاصمة الجزائرية، وهي إذاعة مستقلة يديرها الصحافي الجزائري المستقل إحسان القاضي، ومن سخرية الصدف أن هذه الإذاعة تم تشميعها من طرغ السلطات الجزائرية، ولقي مديرها نفس مصير ضيفه الراضي حيث اعتقلته السلطات الجزائرية.وفي فيديو اللقاء الإذاعي، الذي تم تداوله على نطاق واسع عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تحدث الراضي بجرأة كبيرة عن زواج السلطة والمال في المغرب، الذي يجد فيه بنية حاضنة تحميه وتدافع عنه من أعلى قمة في هرم السلطة في المغرب. كانت تلك التصريحات التي أطلقها الصحافي المغربي من الجزائر، وعبر وسيلة إعلام جزائرية، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير؛ وانتظرت السلطات عودته من الجزائر، وفي جلسة تحقيق ماراثونية قررت اعتقاله يوم 27 دجنبر 2019، وبعد أيام من الاعتقال، وتحت ضغط الرأي العام المغربي والدولي، تم إطلاق سراحه، لكنه ظل مٌقيَّد الحرية بعد أن أغلقت أمامه أبواب الحدود. وظلت تحركاته واتصالاته مراقبة بشكل أكثر من ذي قبل، كما كشف عن ذلك الصحافي عماد استيتو، أحد أصدقائه المقربين، الذي قال للمتحري إن المراقبة كانت لصيقة به حيثما حل وارتحل، وذات مساء، وبينما هما معا يغادران أحد المطاعم في الدار البيضاء، لاحظا أن شخصا يقوم بتصويرهما وعندما دخلا معه في مشادة حضرت سيارة أمن واعتقلتهم جميعا.اتضح فيما بعد أن المصور ليس سوى مراسل لأحد أبرز مواقع التشهير في المغرب، “شوف تي في“، واتضح فيما بعد، حسب ما أسرّ به نفس المصدر، أن عمله كان بتنسيق تام مع الشرطة التي أفرجت عنه وتم حفظ القضية، وقام موقع “لوديسك“ الذي كان آخر منبر إعلامي اشتغل معه الراضي بالكشف عن تفاصيل هذه الملاحقة. لكن المراقبة ظلت لصيقة بالراضي، وفي يونيو 2020، كشفت منظمة العفو الدولية (أمنستي) و“فوربيدن ستوريز” أن هاتفه كان مخترقا باستخدام برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس“، ونشرت قصة التجسس على هاتفه كبريات وسائل الإعلام العالمية مثل “لوموندّ” و”فوربيدن ستوريز” الفرنسيتين، و”الغارديان” البريطانية، و”نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” الأمريكيتين و”ذي تسايت” و”سوددويتش تسايتونغ” الألمانيتين. وفي تصريحه لصحيفة “لوموند” تعليقا على التجسس عليه قال الراضي: “البلاد كلها مراقبة، نحن محكومون بعصابة تراقب وتتجسس وتفبرك التهم وتعتقل وتحاكم وتصدر أحكامها النافذة ضد كل صوت مزعج”، نشر هذا التصريح يوم 22 يونيو 2020، واعتقل الراضي، يوم 29 يوليوز 2020. ويوم 3 مارس 2022، أدانته محكمة استئناف الدار البيضاء بالسجن ست سنوات نافذة، في محاكمة وصفها أحد أفراد دفاعه بأنها “عبثية” و“سريالية”، وقال نفس المصدر للمتحري، بأن المحاكمة غابت عنها كل شروط المحاكمة العادلة، وهو ما أكدته تقارير المنظمات الحقوقية المغربية والدولية التي طالبت بإطلاق سراحه وإسقاط كل التهم التي أدين بها.سليمان الريسوني.. صك الاتهام: تدوينة حساب مجهول!عندما اشتدت حمأة صحافة التشهير ضد سليمان الريسوني، الذي كان حينها يرأس تحرير صحيفة “أخبار اليوم”، دخل في مشاداة مع خصومه، وعندما فشلوا في ثنيه عن مواصلة نشر افتتاحياته اللاذعة اتخذ قرار اعتقاله. حدث ذلك عندما أقدمت فرقة أمنية تتكون من 15 عنصرا أمنيا بالزي المدني على اعتقاله يوم الجمعة 22 ماي 2020، بناء على تدوينة عبر حساب مجهول ادعى صاحبها أن الريسوني (شخصا معروفا) اعتدى عليه جنسيا، لتٌفتَح لهذا الأخير قضية أخلاقية بعيدا عن مواقفه السياسية، وبعد سنتين من الجلسات الماراثونية سيصدر الحكم النهائي بالسجن خمس سنوات نافذة ضد الريسوني، بعد أن أدين بتهمة “اعتداء جنسي” ضد شاب مثلي!لكن قصة الريسوني، لم تبدأ مع هذه التدوينة التي كانت بمثابة المبرر، أو المصيدة، لاعتقاله والحكم عليه وإخراس صوته. فالريسوني يعتبر من أبرز الصحافيين المغاربة، عرف بقلمه الجريء ومقالاته المنتقدة للسلطة، تشرب منذ صغره أفكار اليسار، رغم أن شقيقه الأكبر لم يكن سوى أحمد الريسوني، الرئيس السابق لـ “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، قبل أن يستقيل من رئاسته نهاية هذا الصيف. كان سليمان الريسوني، إلى جانب عمله الصحافي، ناشطا في صفوف الحركة الحقوقية في المغرب، ومتواجدا في كل هيئات التضامن مع الصحافيين المستقلين الذين تعرضوا للمضايقات أو الاعتقال في السنوات العشر الأخيرة وعلى رأسهم صديقه توفيق بوعشرين، الذي كان الريسوني هو منسق لجنة التضامن معه.كان الريسوني، الذي اشتغل في عدة منابر صحافية مغربية، قد قرر التوقف عن العمل الصحافي والتفرغ للكتابة، كما أسرت بذلك زوجته، لكن اعتقال صديقه وزميله الصحافي توفيق بوعشرين مؤسس “أخبار اليوم”، سيجعله يعدل عن فكرته، وكان أول من انضم إلى هيئة مساندته، ومن أجل استمرار الجريدة في الصدور التحق الريسوني بركبها وتولى رئاسة تحريرها بعد اعتقال مؤسسها، وطيلة سنتين من العمل في ظروف صعبة نتيجة اعتقال مؤسس الصحيفة وجلسات محاكمته الماراثونية، والتضييق والضغوط التي كانت تمارس على الصحيفة وفريقها الصحافي، استطاع الريسوني أن يجعل منها صوتا متفردا تميز باستقلاليته وجرأته، وأعطت افتتاحياته الجريئة واللاذعة في انتقادها للسلطة دفعة قوية للصحيفة لكنها جرت عليها مشاكل كبيرة. وانتهى الأمر بالريسوني إلى الاعتقال بناء على شكوى تقدم بها شاب يتهمه فيها بـ “اعتداء جنسي”، وهو ما ظل الريسوني ودفاعه ينفي صحته، وكان مآل الصحيفة الإغلاق. بعد أن ضاق الخناق المادي عليها.كل من تابع جلسات محاكمة سليمان الريسوني، بما في ذلك المنظمات الحقوقية المغربية والدولية، وعلى رأسها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومراسلون بلا حدود وهيومن رايتس ووتش وأمنستي، سجلت عدة تجاوزات تمثلت في تناقضات أقوال المشتكي وفي رفض المحكمة إحضار الشهود الذين طالب بهم دفاع الريسوني، وفي ضعف الأدلة التي تقدم بها دفاع المشتكي، وهو ما دفع هيئة دفاع الريسوني إلى أن تصدر يوم 18 يونيو 2021 بيانا إلى الرأي العام تحت عنوان “هذه الحقيقة التي تحفظنا على ذكرها منذ شهور”، فنّدت فيه كل ادعاءات المشتكي، وأكدت فيه عدم توفر أدنى شروط المحاكمة العادلة في الجلسات التي استمرت سنتين، وختمت الهيئة بيانها قائلة “إن ملف السيد سليمان الريسوني ملف سياسي بامتياز، يستهدف ضرب حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، خاصة، وأن هذا الأخير معروف بكتاباته اللاذعة والمنتقدة للسلطات العمومية”.وفي 11 أكتوبر 2022، وجه فريق العمل الأممي المعني بالاعتقال التعسفي، دعوة للسلطات المغربية من أجل “فتح تحقيق وتحديد المسؤولين عن اعتقال سليمان الريسوني التعسفي وتعويضه عن الأضرار الناتجة عن الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها”. وأحال نفس القرار ملف الريسوني إلى المقرر الأممي المعني بالتعذيب بسبب “المعاملة التي تعرض لها في السجن وتحط من الكرامة الإنسانية”.وبعد صدور الحكم على الريسوني، جاء الانتقاد من الولايات المتحدة، التي يعتبرها المغرب حليفته، عندما قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها “أصيبت بخيبة أمل” من الحكم الصادر بحق الصحافي الريسوني، الذي قالت إنه استُهدف بسبب تغطيته الانتقادية. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، للصحافيين : “نعتقد أن العملية القضائية التي أدت إلى هذا الحكم تتعارض مع وعد النظام المغربي الأساسي بإجراء محاكمات عادلة للأفراد المتهمين بارتكاب جرائم، وتتعارض مع وعد دستور 2011 وأجندة إصلاح جلالة الملك محمد السادس”.القضاء أداة في يد السلطةإن تحول القضاء في المغرب إلى أداة في يد السلطة، موضوع تناولته العديد من التقارير الحقوقية في المغرب والخارج، وهذا الرأي سيؤكده المؤرخ المعطي منجب الذي يستغرب “حقيقة اهتمام القضاء المغربي والسلطات المغربية فجأة بحقوق المرأة والمثليين في الوقت الذي يتسامح فيه نفس القضاء وتتراخى نفس السلطات في متابعة البيدوفليين الأجانب الذين حولوا مدينة مثل مراكش إلى أشهر وكر للبيدوفيليا في العالم”، ويضرب منجب مثلا آخر للتدليل على عدم مصداقية السلطات المغربية عندما ألقت القبض على الصحافية هاجر الريسوني، عضوة تحرير نفس الجريدة التي كان يرأسها عمها سليمان الريسوني “أخبار اليوم”، وتابعتها بتهمة “ممارسة الجنس خارج إطار الزواج والإجهاض”، وأجبرتها السلطات على الخضوع لفحص طبي قسري بحثا عن الدليل على حدوث عملية الإجهاض المفترضة! وبعد الحكم عليها بالسجن النافذ هي وخطيبها السوداني الجنسية، ستنطلق حملة مناصرة كبيرة داخل وخارج المغرب، انتهت بإصدار الملك لعفو يعترف فيه ضمنيا بالخطأ الذي جاء ليشوه الصورة التي بناها الملك لنفسه في الخارج كمناصر لحقوق المرأة. كان ثمن “الغلطة” فادحا، بمثابة من يطلق النار على رجليه.ويختم منجب تصريحاته للمتحري بالقول إن “كل مزاعم الاعتداء الجنسي التي لجأت إليها السلطات المغربية، وساندها القضاء فيها، ضد حالات الصحافيين توفيق بوعشرين وعمر الراضي وسليمان الريسوني، ما هي سوى ذريعة لإسكات الأصوات المزعجة، ورسالة لترهيب وتخويف كل من ستسول له نفسه مستقبلا أن ينتقد أو يحتج ضد السلطة في المغرب”. مهما طال الزمن ستظهر الحقيقية!أحدث تقرير صادر عن هيئة دولية تناول قضية الصحافيين الثلاثة، هو ذلك الذي نشرته لجنة حماية الصحافيين، التي يوجد مقرها في نيويورك، في 13 أكتوبر 2022، وفيه حثت اللجنة المغرب على احترام التزاماته القانونية الدولية، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تلزمه بحماية الحق في حرية التعبير، بما في ذلك حرية الصحافة، لكن غالبا ما تبقى مثل هذه النداءات بلا صدى، بما أن السلطات المغربية التي طَبَّعَتْ علاقاتها مع إسرائيل أصبحت تتقوى بهذه العلاقات، وهو ما دفع الأستاذ الجامعي محمد الساسي، إلى التحذير من كون التطبيع هو “حرب استباقية ضد الديمقراطية وحرية التعبير في المغرب“.في آخر جلسة من محاكمته وقف عمر الراضي، عندما أعطيت له الكلمة للإدلاء بآخر ما لديه من تصريحات، وقال مخاطبا هيئة المحكمة ومن ورائها السلطة التي حولت القضاء إلى أداة للانتقام من معارضيها “لتسمح لي المحكمة أن أعود إلى تسعينيات القرن الماضي في تونس، حيث حوكم صحافيون ومعارضون ومفكرون بتهم جنسية، وكانوا يأتون بضحايا مزيفين، وبحقوقيين مزيفين، وبصحافة صفراء لتبييض هذه الجرائم المتمثلة في فبركة الملفات، لكن في 2015 نظمت جلسات استماع علنية للضحايا الحقيقيين وكشفت الحقيقة، واتضح أن الضحايا المزيفين والحقوقيين المزيفين والصحافة الصفراء لم يكونوا سوى بلطجية في يد النظام للبطش بمعارضيه.. لا أتمنى بالطبع لبلدي مصيرا لما كان يحدث في تونس، لكن حبل الكذب قصير، وستعرف الحقيقة طال الزمن أم قصر، والغد سيكون للحقيقة والحرية والكرامة وإنصاف الضحايا الحقيقيين”أُنجِز هذا التحقيق بدعم من “مركز الخليج لحقوق الإنسان” في إطار مشروع التحقيق في قضايا الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا