مرحلة الصرامة هل تعيدنا الى العدمية السياسية؟
لا شك ان التنظيمات السياسية والدول تحكمها نظم وقوانين تضبط العلاقة بين مكوناتها وتعزز الشعور بالانتماء لها وتعظم المسؤولية تجاه المصلحة العامة، التي تحدد الواجبات الفردية والجماعية ومتى استفحلت مظاهر الفساد والظلم والانحراف عن تطبيق العدالة، وتغليب الاعراف والتقاليد على النظم والقوانين يعود الحنين الى أيام داحس والغبراء وحضن القبيلة وتغليب الانتماء للعشيرة وبداية انهيار المشروع السياسي للحضن الجامع في كنف الدولة، التي تذوب فيها الفوارق الاجتماعية والطبقية وتضمن الحقوق على قدم المساواة للجميع.
من هنا يبرز دور النخب و القيادة السياسية في تجذير الوعي السياسي بأهمية الحفاظ على وحدة الكيان، الضامن للوجود والديمومة والعمل على حماية ذلك باختيار افضل السبل والأدوات.
وفي واقعنا الاستثنائي ومنذ المؤتمر السادس عشر للجبهة والذي حمل شعار تصعيد القتال لطرد الاحتلال واستكمال السيادة، أكد الأمين العام للجبهة أنه يتعين على الجميع الاستعداد لمرحلة الصرامة وتجسيد الشعار الذي توج أشغال المؤتمر.
لكن تلك الشعارات لم تبرح قاعة المؤتمر مثلها مثل شعارات تصعيد القتال واسقاط المسيرات وتطبيق العدالة على الجميع ومواجهة عصابات المخدرات والاجرام التي باتت تشغل المجتمع عن معركته المصيرية مع الاحتلال المغربي الغازي.
وامام مظاهر الفوضى واستفحال السلوكات التي تهدد الامن والسلم الاجتماعي بات من الضروري ان نتحمل جميعا المسؤولية الاخلاقية والتاريخية تجاه المشروع الوطني الذي يواجه استفحال الشعبوية وسيادة أدوات الارتجال والعبثية وهو ما يتطلب منا جميعا وقفة صريحة مع الذات وتقييم مكامن الخلل الناتجة عن بروز مظاهر غريبة على تقاليد واخلاق المجتمع وقيم الثورة، في تنامي الصراعات العائلية على اتفه الاسباب والانتقام المتبادل بين الجيران في عمليات حرق المنازل العبثية وما يرافقها من التجييش للحمية القبلية الجاهلية، وتقاعس الدولة واجهزتها المعنية وازدواجية المعايير في ممارسات و تطبيقات العدالة الانتقائية التي باتت تمس المعنويات العامة وتعمق مظاهر السخط المجتمعي وتهدد مصداقية التنظيم والدولة في حفظ الامن والاستقرار وهو ما يروج له الاحتلال المغربي ويعمل على تحقيقه عبر ادواته وامواله.
وامام هذا الواقع المرفوض تواصل القيادة السياسية الاختباء خلف المتاريس الاجتماعية وثقافة التبرير لاستمرار هذه الوضعية المؤدية إلى العدمية السياسية في مظهر يبرز عمق الأزمة السياسية والاختلالات البنيوية والايديولوجية التي تواجهها الحركة بعد عقود من مسار التحرير والبناء المؤسساتي والتيه في رسم ملامح الدولة الصحراوية التي ينشدها الشعب الصحراوي في ظل استمرار نفس الأدوات التي تفرض سيطرتها على تلابيب الحكم في الحركة المختزلة في دولة المنفى.
وفي نظرة سريعة على واقعنا سنجد الهوة قد اتسعت بين التنظيم وقواعده الشعبية، امام تراجع دوره وخطابه السياسي ومصداقية اطره المهرولة في خدمة مصالحها الخاصة، وعدم تحمل الدولة واجهزتها لمسؤولياتها في حماية وحدة المجتمع وصيانه مكاسبه والاستثمار في عنصره البشري وهو ما ادى الى نزيف الهجرة الجماعية من مخيمات الصمود نحو البحث عن الملاذ الامن وفرص تحسين الواقع المعاش وترك العابثين بأمن واستقرار المجتمع ينهشون ما تبقى من جسم الحركة المريض بحالة الارتباك الحاصل والتجاهل لمتطلبات مواكبة التطورات المتسارعة بواقعنا ومن حولنا وممارسة الاقصاء لكل الأصوات المنتقدة للوضعية الحالية والبحث عن خروج من النفق المظلم امام سلطة النرجسية ومحاولات الغاء التجربة الوطنية العريقة في معالجة مكامن الخلل وتكيف الحركة من المتغيرات الطارئة ومحاولة التأسيس لتجربة جديدة بعناصر المحسوبية والتملق والمحاباة الاي تفتقر للتجربة والقدرة على تحليل معطيات الواقع والاحتكام للآراء المضللة والمستفيدة من الريع.
وبالرغم من الدروس العظيمة للتجربة الوطنية في بدايات الثورة الصحراوية والقدرة على قهر الصعوبات التي واجهها شعب قليل العدة والعدد، تتجذر فيه امراض القبلية ومخلفات الاستعمار و الانصهار ضمن وحدة وطنية تؤطرها رؤية سياسية، وكيان وطني موحد أصبح فيما بعد قادرا على مواجهة المخاطر الخارجية وانتشال الكيانات الصغيرة المؤسسة على اسس القبيلة والعشيرة والجهوية الجغرافية وصهرها في بوتقة التنظيم السياسي الذي تتساوى فيه حقوق المناضلين وواجباتهم تجاه الوطن الذي يعاني تبعات التواجد الاستعماري المباشر ومتربصين من الخارج يتأهبون للانقضاض عليه، ويسعون بكل الوسائل والأساليب الى الابقاء على قابلية الاستعمار عبر نشر التفرقة في مواجهة سلاح الوعي وما تتطلبه المهمة الكبيرة من حشد كل أطياف الشعب الصحراوي واستنهاضه وإيقاظ الروح الوطنية بداخله للتجنيد ومواجهة الأخطار المحدقة به.
لا شك ان تأسيس الوحدة الوطنية شكل المنعطف الحاسم في تاريخ الشعب الصحراوي والارادة القوية في بناء الكيان الوطني الجامع و همزة الوصل بين كل الصحراويين ، فقبيل الانسحاب الاسباني جاء لقاء عين بنتيلي التاريخي الذي بعث رسالة للقوى الاستعمارية المتربصة و للعالم اجمع، تطلع شعب الساقية الحمراء ووادي الذهب الى بناء دولته المستقلة ونقطة الانطلاق في تجسيد الارادة الشعبية في تحقيق الوحدة والالتفاف حول رائدة الكفاح الوطني الجبهة الشعبية، كرد فعل طبيعي على سياسات الاحتلال المبيتة لتشتيت الشعب الصحراوي على اسس قبلية وجهوية على قاعدة ” فرق تسد” فكانت الوحدة الوطنية صمام الامان والصرح الذي صمد في وجه اعاصير المخططات الجهنمية التي استهدفت وأد الثورة الصحراوية في المهد وهو ما ظهر جليا في اتفاقية مدريد الثلاثية التي مهدت للغزو الملكي الداداهي.
فالوحدة هي مطلب شعبي تنادى له المخلصون من شتى اماكن تواجدات الشعب الصحراوي ومشاربه القبلية والجهوية مجسدين بذلك صورة ناصعة لجيل عاش ويلات الاستعمار الاسباني وخبر سياساته في التفرقة والتشويش على أعضاء الجسد الواحد
وبتقوية عرى الوحدة الوطنية وشد وثاقها أصبحت الصخرة التي تكسرت عليها مؤامرة الابادة التي بدأت فصولها في 31 أكتوبر 1975 حين شرعت القوات الغازية المدججة بأحدث الأسلحة في اكتساح التراب الصحراوي من الشمال والجنوب وارتكاب أبشع الجرائم في حق المدنيين الصحراويين، من قصف بالنابالم والفسفور، وإحراق المدن والمداشر ورمي الصحراويين من الطائرات، وحفر مقابر جماعية لدفن الأحياء في حرب إبادة شاملة وفي تلك الظروف التي اتسمت بالصعوبة جعلت الجيش الصحراوي يتصدى للاجتياح المغربي الداداهي وتعطيل زحفه وتكبيد قواته العسكرية أكبر قدر ممكن من الخسائر ضمن عمليات مدروسة اعتمدت عنصر المفاجأة، وساعدتها المعرفة الجيدة لتضاريس وجغرافيا الارض وقدرة المقاتلين العالية على الحركة والمناورة القتالية، مع عملية تأمين المواطنين الصحراويين الفارين أمام القوات الغازية ونقلهم في ظروف النزوح المريرة إلى مناطق آمنة وتشييد مخيمات لإيوائهم والإشراف على تقديم الخدمات الاساسية لهم وبناء منظومة تعليمية وتقديم الخدمات الصحية وإدارة المنفى كل ذلك تحت نيران القصف وبوسائل ذاتية.. وكل الامكانات العسكرية التي واجه بها الشعب الصحراوي تلك الصعاب هي اسلحة انتزعها من المحتل وحولها من الة دمار وخراب الى اسلحة للمقاومة والتصدي لغطرسة وجبروت القوى الغازية، بعزيمة صلبة و قناعة مترسخة ترفض الخنوع او الاستسلام حتى تحقق النصر وتحرير كل الوطن او الشهادة.
فهل بعد كل هذه التضحيات الجسام التي قدمها شعبنا العظيم والعقود من الكفاح والصمود، نلغي التجربة الوطنية ونعود إلى نقطة الصفر من العدمية السياسية؟ سؤال على النخبة والقيادة “الثورية” الإجابة عنه وتحمل مسؤوليتها التاريخية أمامه.