عزوف الشباب وعزوف الدولة

عزوف الشباب وعزوف الدولة

نشأت الدولة العربية الحديثة ضعيفة ومشوهة، ويعود السبب في ذلك، مثلما يرى بعض المفكرين أن الدولة الوستفالية Westphalian State ليست نتاج إجتماعي أو سياسي لسياقاتها، أو تراكم تاريخي يجعلها تصل مستوى النضج المطلوب، أو حدوث قطيعة مع الانساق التقليدية.

وذهب الكثير من المفكرين العرب والغربيين إلى إطلاق مختلف التسميات على الدولة العربية الحديثة؛ فالبعض سماها “الدولة المستوردة”، و “الدولة التابعة”، و”الدولة التسلطية” و”الدولة الرخوة” و”الدولة الريعية” و”دولة القبيلة” و ” دولة المخابرات”… إلخ. وترى طائفة أخرى من أن دولة “سايكس بيكو” تحمل بذور فناءها.

ولا زالت الدولة تعيش تحديات بنيوية، وعجز عن تلبية الخدمات المنوطة بها تجاه المواطن التي تمثل أساس الميثاق التعاقدي الذي يجمع بينهما. وقد ظهر ذلك قبل و أثناء وبعد تفشي جائحة كورونا. و يموج الوطن العربي بالدول الفاشلة و دول مقاومة تقترب من الفشل.

وترى طائفة أخرى من المفكرين أن الدولة العربية ما زالت تسير في طور المرحلة الهوبزية (1651) “اللفياثان”، بحيث تكون الدولة “وحش”؛ تستأثر بكل القوة مقابل توفير الأمن للمواطن. والحقيقة أن بعض الدول لازالت تعيش في مرحلة ما قبل هوبز، بحيث لا يمكنها أن تستأثر بالقوة، وإنما تتقاسمها مع بعض الانساق التقليدية مثل القبيلة أو الطائفة.

يعد القاسم المشترك بين الدول العربية هو محاولة ضمان الأمن والاستقرار ، بدل تحقيق الديمقراطية Security trumps democracy. وتعتبر الأنظمة الحاكمة أن أي مساس بالنظام القائم، سواء “دولة المخابرات” أو الدولة القبلية أو الطائفية، من شأنه أن ينسف الدولة ويعرضها لعدم الاستقرار، ما دام السعى نحو تحقيق الديمقراطية المنشودة يظل بعيد المنال.

مثلت الدولة الصحراوية نموذج فريد من نوعه في الانتقال من نظام القبيلة إلى الدولة. وقد كتبت عن ذلك Alice Wilson و Konstantina Isidoros. وحسب الدراسات الانثروبولوجية، فإنه من النادر أو شبه المستحيل في التجارب التاريخية الإنتقال من مجتمع رعوي إلى دولة . فالقبائل القليلة التي قيل إنها تمكنت من بناء دول كانت قبائل حضرية sedentary . وبالنسبة ل Wilson و Isidoros ما يجعل التجربة الصحراوية أنموذج ومعجزة يكمن في مسألتين: الأولى، الإنتقال من نظام قبلي ورعوي إلى دولة، والثانية، القضاء على القبلية detribalization.

والحقيقة أن دراسة Wilson التي وجدت صدى كبير في أوساط النخب الأمريكية وغيرها من الدراسات حول النقلة الإجتماعية الصحراوية، لم تجانب الحقيقة، لكن الإنتقال من نظام القبيلة إلى الدولة هو مسار طويل قد يتعثر في الطريق، إذا لم يجد نخية واعية ولديها رؤية تحافظ عليه. ويبدو أن المشاكل والخلافات لتي عاشتها البوليساريو في فترة الثمانينات وقبلها عطلت من مسار الإنتقال من القبيلة إلى الدولة.

ظهرت لاحقاً بعض النخب يمكن القول إنها “نخب مفترسة” أو “طلائع رجعية”، إتخذت من القبيلة درع لتحقيق مصالحها، أو سلم للوصول إلى السلطة. والحقيقة أن أنموذج دولتنا الوطنية لا يختلف عن الدول العربية ذات المكونات الإثنية أو القبلية أو الطائفية، إذ أن الكركاس دولة والمحرك قبلي.

الواضح أن النزعة القبلية عادة ما تخفت في ظل وجود خطر وجودي مثل “الاحتلال المغربي” في الحالة الصحراوية، وسرعان ما تعود العصبية إلى الواجهة لما يشعر القوم أن ذلك الخطر زال أو خفت. علاوة على ذلك، ليس هناك إرث تاريخي يجعل التجربة الصحراوية يتم فيها الإنتقال من القبيلة إلى الدولة بالسرعة والسلاسة المطلوبتين. ومع ذلك، يمكن الجزم أن الدولة الصحراوية حققت قفزات عملاقة مقارنة بدول أخرى، و بالنظر إلى طبيعة المجتمع التي كانت سائدة، و نقطة الإنطلاقة.

يرى عالم الاجتماع إبن خلدون في كتابه “المقدمة”، الذي ما زال مرجع في فهم عقلية شعوب المنطقة و وحكامها، أن قوام الدولة المال، والمال يصنع الجند ويصنع الولاء. ندرة هذا المورد الثمين يضعف من الدولة وقدرتها على تحقيق أهدافها.

سعت الدولة/الحركة في بلادنا إلى التعويض عن نقص الموارد في فترة من الفترات بالخطاب السياسي القائم على التحريض، والوطنية والشعر والفن، و ترسيخ القناعات، و الدعوة إلى الإستقامة والمثل العليا، ومثل ذلك الخطاب غذاء لروح الجماهير، مكن الدولة/ الحركة من قطع أشواط مهمة من تاريخها.

بعد أربعين سنة، ولد جيل جديد، بذهنية مختلفة، و وقناعات مغايرة، يواجه تحديات مختلفة؛ غلاء الأسعار، الحاجات المادية، أصبح يرى في خطاب الدولة القديم الجديد “مثالية كانط”، أو “قومية” عبد الناصر، التي تخضر الجماهير بالشعارات، ولا تلبي احتياجاتها.

في نفس الوقت، سرعان ما تلاشت مثالية الأطر وخطاباتها الوطنية، وتفشت بينهم خفة اليد والقبلية وتشييد العمران في اللجوء وخارجه، في وقت لم تواكب الدولة سرعة المتغيرات الإجتماعية والفكرية، ومن دون إنشاء مشاريع اقتصادية تدر عليها دخل، أو الحصول على موارد تعينها على المحافظة على “روح الحركة” أو ما يسميه إبن خلدون “قوام الدولة”.

لا يكمن مشكل عزوف الشباب أو هجرته في فقر الديمقراطية أو عدم التداول على السلطة، بل ندرة الموارد وتهميش الشباب. هذه السياسة افرغت المؤسسات من القوى الحية التي يمكن أن تنهض بالدولة ، وقد يكون ذلك أحيانا راجع لسياسات الدولة، وأحياناً أخرى بسبب ظروف خارج عن/من إرادتها.

إذا كانت الدولة العربية الحديثة رخوة أو تحمل بذور فناءها، فإن دولة المنفى؛ بلا موارد، وارضها محتلة “تستيغن”.

أقل ما يمكن أن يقال عن الدولة الصحراوية من وصف، بالنظر إلى مختلف الأوصاف التي أطلقت على الدولة العربية الحديثة، هي “الدولة المناضلة”.

بقلم : بلة لحبيب أبريكة.