حربُنا ضد الاحتلال المغربي بين الأمس واليوم.. ما الذي تغير؟
مع اندلاع الكفاح المسلح في الصحراء الغربية ضد المُحتل المغربي الغاشم، كان هذا الأخير أكثر عدة وعتاداً، مدعوماً من أعتى أنظمة العالم (الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، إسرائيل، السعودية، إسبانيا وغيرهم… مُضافٌ إليهم طبعاً النظام الداداهي في موريتانيا).
وبالمقابل كان جيش التحرير الشعبي الصحراوي فتياً حديث النشأة والتكوين ودون أي خبرة، لا ميدانية ولا نظرية، لكنه سرعان ما قلب الموازين على الأرض، بفضل علو كعب مُقاتيله الأشاوس وتضحياتهم وتفانيهم، حيث لقنوا كل هذه القوى مجتمعةً دروساً في الحرب والمواجهة العسكرية لازالت تُدرسُ في الأكاديميات العسكرية حتى يومنا هذا.
كان زاد جيشنا ومن حوله الشعب الصحراوي ورائدة الكفاح، الممثل الشرعي والوحيد، جبهة البوليساريو، هو الإيمان بالقضية وحتمية النصر والتسابق نحو الشهادة في سبيل ذلك، يوم استبدل الطلبة مقاعد الدراسة بمقاعد “أدْرَيْمِيزَة”، والقلم بالبندقية، والرفاه الشخصي والفردي في دول الجوار بمصاعب ومشاق اللجوء والنضال من أجل الجميع.
فما الذي تغير ياترى، حتى نرى بعضاً من نخبنا تنتقد خيارنا اليوم في مواصلة حرب التحرير عسكريا، وهي التي لم تتوقف يوماً منذ اندلاعها في 20 ماي 1973 ضد المستعمر الاسباني، و31 أكتوبر 1975 ضد المحتل المغربي الجبان؟.
الحربُ كانت ومازالت وستبقى مُستمرة وبكل الطرق المتاحة وليست فقط بالكفاح المسلح إلى غاية تحقيق الأهداف التي من أجلها أعلنت، وهو ما يُجسدُه شعار “كل الوطن أو الشهادة” لا غيره من الحلول وأشباه الحلول؛ فإما الوطن كاملاً أو الموت دونه. هكذا كان التصور منذ بداية الجبهة، وهذا ما فهمه جميع المناضلين الذين أعطوا أرواحهم فداء للوطن غير منتظرين لجني ثمار تضحياتهم، ولا مطالبين بمقابل لهذه التضحيات؛ ولهذا تربعوا في قلوبنا جميعا شهداء للواجب، وسيظلون رموزا منيرة لهذه الثورة العظيمة التي صنعت المعجزات وماتزال.
الذي تغير بين الأمس واليوم، ليس العدة ولا العتاد ولا الاصرار ولا العزيمة على تحقيق نفس الهدف المنشود منذ اليوم الأول (الاستقلال التام)؛ ما تغير هو تغلب القول على الفعل، وتغليب المصلحة الشخصية على العامة، والأخطر منه هو ظهور محاولات تبرير كل ذلك -من طرف بعض النخب الشابة على الأخص- بالتقليل من جدوى إعادة امتشاق البندقية بالقول مثلاً “أن الظروف غير مواتية أو أن الحسابات لم تكن مدروسة النتائج أو أن العدو استعان بأسلحة متطورة أو تحالفات جديدة… إلخ، من التبريرات التي تستعمل لغة الحكمة، في حين أنها تخفي نية التخاذل وضعف القناعات وشيوع منطق المزايدات للأسف الشديد من جالسين في بروج عاجية يمارسون رياضة تثاقف علوي ويرفضون أو يتهربون من النزول لميدان الفعل الميداني سواء منه العسكري، أو في أي جبهة من جبهات المواجهة مع الاحتلال، وما أكثرها.
كل هذه الحجج لا يمكن بأي حال من الأحوال -كما أشرنا- إلا أن تكون محاولة لتبرير انشغالنا بمتاهات كثيرة غير الهدف الأسمى، ولو أن الكثير منها قد يكون مشروعاً، لكن ليس إلى درجة التشكيك في قرار العودة إلى الكفاح المسلح والاستشهاد والشهداء والثبات على ما انطلقنا من أجله أول البداية ومازلنا مطالبين بمواصلته في حرب أجيال لن تنتهي حتى ولو بالاستقلال؛ لأن الهدف الأسمى هو التحرير، ولكنه أيضا بناء دولة، مستقلة، فاعلة وقوية في محيطها للأجيال القادمة؛ وبالتالي فحرب التحرير التي على الجماهير ضمانها حرب طويلة الأمد، متعددة الأوجه، لا وقت فيها للتخاذل ولا للمزايدات، بل للفعل اليومي والصادق.
والآن، ما يَنْقُص الشوط الثاني من حربنا المسلحة ضد المحتل المغربي الغاشم -وهو الأهم ومفتاح النصر- هو تواجد الطاقة الشابة والنخب واستغلال طاقاتها الكامنة في ميادين الفعل المختلفة؛ على الأقل أن تساهم بما لديها من طاقات، ومن قدرات، ومن إمكانيات ربما كامنة لتطوير أساليب مواجهتنا العسكرية مع العدو مثلما فعل أسلافهم من مقاتلين شباب في السبعينيات والثمانينيات حين اقتحموا مجال التعامل مع الأسلحة المختلفة دون سابق تدريب، بل وطوروها، وأبدعوا فيها. والحال الآن يتطلب مثل هذه الروح، ومثل هذه العزيمة لمواجهة ظروف الحرب التقنية الجديدة.
وجواباً على من يتساءل كيف السبيل إلى المزج بين أداء الواجب الوطني في أي مجال مواجهة، وبين مصاعب الحياة وأعباء أداء الواجب الأسري تجاه العائلة والأهل، فلا بأس إذا لم يكن بد من ذلك أن نعمل -وهو أضعف الإيمان- على المُزاوجة بين محاولة سَدِّه من جهة، وبين خدمة الصالح العام والواجب الوطني والسعي لتحقيق الهدف المنشود، هذا الأخير الذي سيكون حتماً هو الخلاص.
غير أن أهم من ذلك هو الالتزام التام بروح العمل الوطني، وتفادي تقديم الخدمات المجانية للعدو عبر العمل كمعاول هدم لمعنويات المناضلين في الميدان بدل دعمهم بما يمكن من الدعم المعنوي، والتقني، وغيره. وأقله اتباع الحكمة التي تقول “قل خيرا أو صمت”، بدل تسفيه من يحاول على الأقل أن يؤدي واجبه، وقد يخطئ وقد يصيب.
إن حربنا ضد نظام الاحتلال حرب حتمية لا مناص منها، ونتيجتها أيضا حتمية لا بديل عنها وهي التحرر.. ومن لا يدرك ذلك أو يشكك فيه، أو ينهار عند أقل ضربات العدو، عليه أن يعيد حساباته، ويعلم أن عليه أولا أن يجاهد نفسه، ويبنيها، ويتخلص من ضعفها قبل أن يحاول تغيير الواقع والإسهام فيه، لأن النصر مثلما كان دائما هو مجرد صبر ساعة، ولا يأتي أبدا عبر التردد والتخاذل كل ساعة.