البدايات الأولى للتعليم، رجال ونساء تحدوا الصعاب وأحسنوا تربية وتعليم النشء
لم تكن البدايات الأولى للتعليم مفروشة بالورود، ففي ظل موروث استعماري طابعه الجهل وواقع الغزو وتداعياته، تولى رجال ونساء بما معهم من علم متواضع تعليم النشء وتربيته والمساهمة في محو الأمية للكبار، ورغم الصعاب والتحديات الجمة التي واجهتهم، فقد تكللت مجهوداتهم بالنجاح في هذا المجال تاركين للأجيال تجربة وطنية فريدة من نوعها.
وفي حوار أجرته وكالة الأنباء الصحراوية بالتزامن مع انعقاد الندوة الوطنية للتعليم، تطرق المؤسسون الأوائل عن نشأة العملية التعليمية منذ بدايات الثورة.
في مخيم وديان توطرات ، ولدت فكرة إنشاء أول مدرسة للتعليم باللجوء
عن فكرة إنشاء أول مدرسة بعد تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب يقول المعلم المؤسس محمد عالي أحمد لمبارك سيدي سعيد (عباس) “بوجود عائلات صحراوية في أول مخيم بوديان توطرات ـ تم تعيني مكلفا بالتعليم والتوجيه ـ وبدأت التفكير في إنشاء مدرسة، وقد تم تأسيسها فعلا بعد أن انتقل المخيم إلى الرابوني.
النواة الأولى للتعليم نشأت ب “الرابوني”، مخيم الشهيد الحافظ بوجمعة لاحقا
“شكلت المدرسة التي أنشئت في الرابوني منتصف سنة 1975 النواة الأولى للتعليم في المخيم الذي كان عبارة عن تجربة بدائية يتكون من عدة خيم جمعت من هنا وهناك قبل الغزو والنزوح كلف بتسييره الشهيد سيدي حيذوك، وكان المعلمون بتلك المدرسة يسهرون على تعليم الأطفال ومحو الأمية للكبار، بالمدرسة التي كانت عبارة عن خنادق تحت الأرض يتخذ منها الأطفال والكبار مكانا للتعلم.”
ويتحدث محمد عالي (عباس) عن الكيفية التي حضرت بها تلك الخنادق لكي تتحول إلى أقسام “لقد تم القيام بتنظيف الخنادق المملوءة بالتراب والبحث عن غطاء لكل خندق واستغلال هذه الخنادق كأقسام” .
ويضيف “لقد كانت البداية صعبة ـ لكن بالاعتماد على الذات قد تحقق المستحيل، وأذكر هنا أساليب التعليم التي اتبعت في مدرسة الرابوني حيث كانت تتبع أساليب مثل الكتابة على الرمال للمتعلمين والتركيز خصوصا على الأميين والكتابة على علب مصنوعة من الورق لتعليم آيات قرآنية أو مبادئ الجبهة أو مقررات المؤتمرات كلمات وجمل يرددونها عدة مرات جماعيا حتى يحفظوها”
ويضيف عباس أن “مادة الحساب كانت تدرس جماعيا، وبالنسبة للذين لديهم ضعف في الاستيعاب يتم الشرح لكل واحد على حدة.”
وعن المستويات والمواد المدرسة يوضح (عباس) “بدأنا الدراسة بقسمين : الأول، معلمه جمال البندير وكان يدرس تلاميذه: القراءة، الكتابة، الرسم، المحادثة والحساب، بينما القسم الثاني كان معلمه المتحدث (عباس ) ويدرس قواعد النحو، الإملاء، التعبير، المحادثة، الرسم والحساب”.
ويضيف عباس “في وقت لاحق التحق معلمون جدد بالمدرسة وعدد لابأس به من الأطفال وهذا ساعد في خلق أقسام جديدة وإضافة معلمين وهم : أمربيه أحمد، لعبيد البشير، عبدي شياخ، الضعيف ( يوسف) وأصبحت المدرسة تحتوي على أربعة أقسام ومدير ومعلمة للنساء (صفيةالبشرة)”
من جهته حبيب ولد محمد فاكلا وهو أحد المعلمين والمشرفين التربويين الأوائل يستحضر تلك المرحلة بعد مرور أكثر من 47 سنة ويقول: منذ البدايات الأولى للثورة أعطت الجبهة أهميه كبيرة للتعليم ومحو الأمية، وفي هذا السياق يجب أن لا ننسى تلك المدرسة التي أنشئت قبل اللجوء بالرابوني والتي استقبلت الأطفال الصحراويين من الأرياف ونواحي الرابوني وكان لديها طاقم تعليمي مازال أعضاؤه ـ لله الحمد ـ على قيد الحياة، نذكر من بينهم محمد عالي (عباس ) وجمال البندير وعثمان ولد أبيشر ولحسن ولد سيد أحمد المعروف ب “الكرنيطي”.
تميزت تلك الفترة الزمنية بتصعيد الاحتجاجات ضد المستعمر الإسباني في الصحراء الغربية، وخاصة مع مجيء بعثة تقصي الحقائق الأممية ماي سنة 1975 واغتيال البطل الحافظ بوجمعة تحت التعذيب على يد المستعمرين الإسبان في يوم 19 يوليو 1975، والذي تم تسمية الرابوني باسمه بعد ثلاثة أيام من اغتياله وذلك في اجتماع تأبيني في مخيم الرابوني أشرف عليه الشهيد الولي مصطفى السيد.
مخيم كان يعيش ظروفا صعبة
ونظرا للوضعية الصعبة التي يعيشها المخيم آنذاك من قلة الإمكانيات ومحدودية المعاش وصعوبة الطقس، فإن مواطني المخيم يقول عباس “ظلوا صامدين تحذوهم في ذلك المعنويات العالية والقناعة بفكر الجبهة والالتزام بطرحها والحماس لإنجاز البرنامج المعمول به على العموم.”
وعن برنامج التعليم والتوجيه بالمخيم يقول عباس “فبعد دراسة ومعرفة مؤهلات أفراد المخيم استنتجت أنه لا يمكن القيام بالتعليم كمنهاج، وذلك لأسباب مثل اختلاف الأعمار مع تقارب المستوى الذي كاد أن يكون معدوما، إلا أن بعض التلاميذ سبق وأن درس في الكتاتيب القرآنية بينما البعض الآخر لا يعرف القراءة ولا الكتابة ومن هذا التقييم تم تبني فكرة محو الأمية لأنها القاسم المشترك بين الصنفين وتم اعتماد برنامج التدريس خلال كل أيام الأسبوع ماعدا الخميس والجمعة.”
مراعاة الأحوال الجوية في التدريس
كانت عملية التدريس تراعي الأحوال الجوية المتقلبة ويشرح عباس الطريقة التي كانت تجرى بها تلك العملية قائلا “لما يكون الجو صحوا ومعتدلا ندرس في الهواء الطلق أو في ظل إحدى الخيم أو في ظل شجرة من الطلح المجاور للمخيم، وإذا كان الجو باردا أو مضطربا ندرس في خيمة “بنية ” تبرعت بها إحدى المواطنات لاستغلالها كقسم.”
” أما عن محتوى المادة التعليمية فقد كان نتيجة لمجهود وابتكار ذاتي واعتمدت في البداية على تركيب الكلمات، بعثرة الكلمات والبحث عن إتمامها وتركيبها وجمعها” يضيف محمد عالي (عباس).
التعليم المتزامن مع النزوح وظروف الغزو
مع تزايد أعداد الصحراويين الفارين من الغزو العسكري المغربي للصحراء الغربية في أواخر سنة 1975 توجهت الأنظار إلى الأماكن التي استقبلت النازحين وهم في طريقهم إلى أرض اللجوء فكان لابد من القيام بمحو الأمية وتعليم الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في العراء أو تحت الأشجار.
يقول حبيب ولد فاكلا عن هذه المرحلة والتي يصفها بالمرحلة الأصعب على الإطلاق “خلال النزوح وبداية اللجوء وما صاحبهما من ظروف مأساوية )غزو من الشمال والجنوب وقتل وتدمير ، نساء وأطفال وشيوخ انتشر بينهم المرض مع عدم توفر الأكل أو الشرب أو المأوى( في هذه الظروف عقد لقاء يعرف بلقاء “أكليبات الفولة” الذي كان من نتائجه تنظيم العملية التعليمية”.
ويقول عباس عن هذا اللقاء:”عقد لقاء أكليبات الفولة لتوضع فيه خطط ومراسيم تحدد من خلالها المنهج العام للتعليم وميكانيزمات للسير به في الطريق السليم رغم الانشغالات الكثيرة آنذاك المتمثلة في التصدي لجحافل العدو وفرار المواطنين سيرا على الأقدام خوفا من بطش العدو، فعين التنظيم الساهرة بسياستها الحكيمة أبت إلا أن تعطي للتعليم التفاتة وتخلق له استراتيجية هي سر وجود الكيان الصحراوي، ومن هذا المنطلق تم عقد هذا اللقاء الذي تمخضت عنه لجنة مسؤولة عن التعليم وبرامجه والمقررات القادرة على الرفع من مستوى المدرسة الصحراوية، هذه اللجنة اهتمت بالتلميذ وتابعت انشغالاته ووفرت له ما استطاعت من احتياجاته، وبالمعلم وتكوينه وتطويره حيث تم إرسال أول دفعة للمعلمين إلى المعهد البيداغوجي في ولاية بشار الجزائرية”.
بعد إعلان الجمهورية، تأسيس إدارة التعليم وتأطير شامل للأطفال في سن الدراسة
بعد الإعلان عن قيام الجمهورية الصحراوية في 27فبراير 1976تم تنظيم الإدارة الوطنية التي أشرفت على إدارة المؤسسات ،ومن بينها مؤسسة التعليم ، والتي كان من أولويات عملها تأطير الأطفال بشكل كامل ،وفي هذا الاطار يقول حبيب ولد فاكلا : “انشاء إدارة للتعليم تابعة للوزارة الأولى اشرف عليها الأخ اعلي محمود يعتبر المرحلة الثانية من التعليم حيث وضعت تأطير الأطفال بشكل كامل في المدارس على رأس اهتماماتها ثم ارسال آخرين منهم الى دول صديقة ،حيث استقبلت ليبيا اعدادا منهم في نهاية 1976 ، والجزائر مع بداية 1977، وتولى مشرفون ومربون صحراويون التنظيم والاشراف اليومي على هؤلاء الأطفال في المدارس التي احتضنتهم من خلال متابعة أحوالهم في مجالات النظافة والتغذية والصحة والتوعية بالقضية الوطنية، وسهروا على تطبيق البرنامج الشامل للأطفال المعتمد في المخيمات ،وكانت من نتائج هذا الاشراف بناء الشاب الصحراوي الملتزم بقضيته الذي لم يخيب الامل، فأطفال تلك الحقبة هم اليوم رجال ونساء يقومون بدورهم في المواجهة مع العدو وبناء مؤسسات الدولة الصحراوية.”
إقامة الأطفال بالمدارس الوطنية كان أمرا جديدا على المجتمع
عن تلك التجربة يتحدث حبيب ولد فاكلا : “كانت هناك صعوبات في التعامل مع الأطفال الذين استضافتهم المدارس الوطنية الناشئة، فهؤلاء لم يتعودوا أن يبتعدوا عن العائلة، فإسكانهم في مدارس أو مبيتهم بعيدا عن العائلة خلق الاشكالات في التكيف مؤقتا، لكن تم التغلب على تلك الإشكالات في هذا المجال، وكانت هناك ثقة كبيرة من قبل العائلات في التنظيم، ولولا الثقة لما نجح شيء. كانت مدرسة 9 يونيو أول مدرسة وطنية بنيت بعد ذهاب الأطفال الى الخارج، حيث جذبت الأطفال في المدارس الجهوية، وتعتبر خطوة إنشائها خطوة تاريخية، فقد كانت تجربتها في التدريس والتربية والتكوين فريدة وحتى المعلمين والعاملين بالمدرسة تعلموا من تجربتها ولا بد من الاستفادة من تلك التجربة لكي لا تذهب أدراج الرياح.”
توجيهات
لم ينس الآباء الذين كانوا من الجيل الأول من المعلمين وهم يتحدثون عن البدايات الأولى للتعليم وما صاحبها من صعوبات وما حققت من إنجازات الا أن يتوجهوا بالنصح والتوجيه لأبنائنا الجالسين على مقاعد الدراسية والمقبلين عليها حيث يقول حبيب ولد فاكلا:
“لقد لعب ذلك الجيل الأول من المعلمين أدوارا متعددة، وأحسنوا تربية وتعليم الأطفال الذين كان من بينهم من قضى 20 سنة بالخارج، خاصة بكوبا حيث تمت حضانتهم وحافظوا على قيمهم ولغتهم، ونقول أننا كمعلمين أو مربين أو مشرفين قد تعلمنا نحن بدورنا من أولئك الأطفال الذين أصبحوا رجالا ونساءً وتخرجوا في مختلف الاختصاصات.”
ويتابع في هذا السياق: “بالنسبة لي تجربة كوبا كانت تجربة ثمينة جدا، وكانت في مستوى وتطلعات شعبنا، وأقول للذين سيدرسون في الجزائر او كوبا او أي مكان في العالم أن يقتدوا بأولئك الشباب الذين سبقوهم في الثمانينات والتسعينات وبداية الالفية، وكانوا سفراء لشعبهم ولم يهمهم شيئا سوى دراستهم ونضالهم من أجل وطنهم.”
“كما أريد أن أقول ان العائلة التي أصبحت الآن على اتصال بأبنائها في الخارج مطلوب منها المشاركة في تربيتهم وتوجيههم، وهذا يصب في المصلحة العامة.”
أما محمد عالي (عباس) فقد وجه رسالة الى الجيل الناشئ حيث قال “يا نشء صن عرض من سبقك بالشهادة والإخلاص، صن شرفك وأمانتك وكن خير خلف لخير سلف.”
“يا نشء اعلم انه مهما كانت دراستك او مسؤولياتك او ثقافتك لابد لك ان تشعر وتحس بجميل من فتح لك ابواب الدراسة حتى اصبحت مثقفا، فالجميل يرد العرفان والتواضع و الوفاء بالعهد (الكرة في مرماكم يا شباب).”